فصل: ذكر خبر المثنى بن حارثة وأبي عبيد بن مسعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


 ذكر حال المثنى بن حارثة بالعراق

وأما المثنى بن حارثة الشيباني فإنه لما ودع خالد بن الوليد وسار خالد إلى الشام فيمن معه بالجند أقام بالحيرة ووضع المسلحة وأذكى العيون واستقام أمر فارس بعد مسير خالد من الحيرة بقليل وذلك سنة ثلاث عشرة على شهربراز ابن أردشير بن شهريار سابور فوجه إلى المثنى جندًا عظيمًا عليهم هرمز جاذويه في عشرة آلاف فخرج المثنى من الحيرة نحوه وعلى مجنبتيه المعنى ومسعود أخواه فأقام ببابل وأقبل هرمز نحوه وكتب كسرى شهربراز إلى المثنى كتابًا‏:‏ ‏(‏إني قد بعثت إليكم جندًا من وحش أهل فارس إنما هم رعاء الدجاج والخنازير ولست أقاتلك إلا بهم‏)‏‏.‏

فكتب إليه المثنى‏:‏ ‏(‏إنما أنت أحد رجلين‏:‏ إما باغٍ فذلك شر لك وخير لنا وإما كاذبٌ فأعظم الكاذبين فضيحة عند الله وفي الناس الملوك وأما الذي يدلنا عليه الرأي فجزع الفرس من كتابه فالتقى المثنى وهرمز ببابل فاقتتلوا قتالًا شديدًا وكان فيلهم يفرق المسلمين فانتدب له المثنى ومعه ناس فقتلوه وانهزم الفرس وتبعهم المسلمون إلى المدائن يقتلونهم‏.‏

ومات شهربراز لما انهزم هرمز جاذويه واختلف أهل فارس وبقي ما دون دجلة بيد المثنى‏.‏

ثم اجتمعت الفرس على دخت زنان ابنة كسرى فلم ينفذ لها أمرٌ وخلعت وملك سابور بن شهربراز‏.‏

فلما ملك قام بأمره الفرخزاد بن البنذوان فسأله أن يزوجه آزرميدخت بنت كسرى فأجابه‏.‏

فغضب آزرميدخت فأرسلت إلى سياوخش الرازي فشكت إليه فقال لها‏:‏ لا تعاوديه وأرسلي إليه فليأتك فأرسلت إليه واستعد سياوخش فلما كان ليلة العرس أقبل الفرخزاد حتى دخل فثار به سياوخش فقتله وقصدت آزرميدخت ومعها سياوخش سابور فحصروه ثم قتلوه وملكت آزرميدخت ثم تشاغلوا بذلك‏.‏

وأبطأ خبر أبي بكر على المثنى فاستخلف على المسلمين بشير بن الخصاصية ووضع مكانه في المسالح سعيد بن مرة العجلي وسار إلى المدينة إلى أبي بكر ليخبره خبر المشركين ويستأذنه في الاستعانة بمن حسنت توبته من المرتدين فإنهم أنشط إلى القتال من غيرهم فقدم المدينة وابو بكر مريض قد أشفى فأخبره الخبر فاستدعى عمر وقال له‏:‏ إني لأرجو أن أموت يومي هذا فإذا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى ولا تشغلنكم مصيبة عن أمر دينكم ووصية ربكم فقد رأيتني متوفى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما صنعت وما أصيب الخلق بمثله وإذا فتح الله على أهل الشام فاردد أهل العراق إلى أهل العراق فإنهم أهله وولاة أمره وأهل الجرأة عليهم‏.‏

ومات أبو بكر ليلًا فدفنه عمر وندب الناس مع المثنى وقال عمر‏:‏ قد علم أبو بكر أنه يسوءني أن أؤمر خالدًا فلهذا أمرني أن أرد أصحاب خالد وترك ذكره معهم‏.‏

وإلى آزرميدخت انتهى شأن أبي بكر فهذا حديث العراق إلى آخر أيام أبي بكر رضي الله عنه‏.‏

 ذكر وقعة أجنادين

وقد ذكرها أبو جعفر عقيب وقعة اليرموك وروى خبرها عن ابن إسحاق من اجتماع الأمراء ومسير خالد بن الوليد من العراق إلى الشام نحو ما تقدم وقال‏:‏ فسار خالد من مرج راهط إلى بصرى وعليها أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان فاجتمعوا عليها فرابطوها فصالحهم أهلها على الجزية فكانت أول مدينة فتحت بالشام في خلافة أبي بكر‏.‏

ثم ساروا جميعًا إلى فلسطين مددًا لعمرو بن العاص وهو مقيم بالعرباتمن غور فلسطين واجتمعت الروم بأجنادين وعليهم تذارق أخو هرقل لأبويه وقيل كان الروم القبقلار وأجنادين بين الرملة وبين جبرين من أرض فلسطين وسار عمرو بن العاص حين سمع بالمسلمين فلقيهم ونزلوا بأجنادين وعسكروا عليهم فبعث القبقلار عربيًا إلى المسلمين يأتيه بخبرهم فدخل فيهم وأقام يومًا وليلة ثم عاد إليه فقال‏:‏ ما وراءك فقال‏:‏ بالليل رهبان وبالنهار فرسان ولو سرق ابن ملكهم قطعوه ولو زنى رجم لإقامة الحق فيهم‏.‏

فقال‏:‏ إن كنت صدقتني لبطن الأرض خيرٌ من لقاء هؤلاء على ظهرها‏.‏

والتقوا يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة فظهر المسلمون وهزم المشركون وقتل القبقلار وتذارق واستشهد رجال من المسلمين منهم‏:‏ سلمة بن هشام بن المغيرة وهبار بن الأسود ونعيم بن عبد الله النحام وهشام بن العاص بن وائل وقيل‏:‏ بل قتل باليرموك وجماعة غيرهم‏.‏

قال‏:‏ ثم جمع هرقل للمسلمين فالتقوا باليرموك وجاءهم خبر وفاة أبي بكر وهم مصافون وولاية أبي عبيدة وكانت هذه الوقعة في رجب هذه سياقة الخبر‏.‏

وكان فيمن قتل ضرار بن الخطاب الفهري وله صحبة وعمرو ابن سعيد بن العاص وهو من مهاجرة الحبشة وقتل باليرموك وممن قتل الفضل بن العباس وقيل‏:‏ قتل بمرج الصفر وقيل‏:‏ مات في طاعون عمواس‏.‏

وفيها قتل طليب بن عمير بن وهب القرشي وقتل باليرموك شهد بدرًا وهو من المهاجرين الأولين‏.‏

وفيها قتل عبد الله بن أبي جهم القرشي العدوي وكان إسلامه يوم الفتح‏.‏

وفيها قتل عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب بعد أن قتل جمعًا من الروم في المعركة وكان عمره يوم مات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نحو ثلاثين سنة‏.‏

وفيها قتل عبد الله بن الطفيل الدوسي وهو الملقب بذي النور وكان من فضلاء الصحابة قديم الإسلام هاجر إلى الحبشة‏.‏

أجنادين بعد الجيم نون ودال مهملة مفتوحة ومنهم من يكسرها ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة وآخره نون‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن وقعة أجنادين كانت سنة خمس عشرة وسيرد ذكرها إن شاء الله‏.‏

 ذكر وفاة أبي بكر

كانت وفاة أبي بكر رضي الله عنه لثماني ليال بقين من جمادى الآخرة ليلة الثلاثاء وهو ابن ثلاث وستين سنة وهو الصحيح وقيل غير ذلك وكان قد سمه اليهود في أرز وقيل في حريرة وهي الحسو فأكل هو والحارث بن كلدة فكف الحارث وقال لأبي بكر‏:‏ أكلنا طعامًا مسمومًا سم سنة فماتا بعد سنة‏.‏

وقيل‏:‏ إنه اغتسل وكان يومًا باردًا فحم خمسة عشر يومًا لا يخرج إلى صلاة فأمر عمر أن يصلي بالناس‏.‏

ولما مرض قال له الناس‏:‏ ألا ندعو الطبيب قال‏:‏ قد وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال وقيل‏:‏ كانت سنتين وأربعة أشهر إلا أربع ليال وكان مولده بعد الفيل بثلاث سنين‏.‏

وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس وابنه عبد الرحمن وأن يكفن في ثوبيه ويشترى معهم ثوب ثالث وقال‏:‏ الحي أحوج إلى الجديد من الميت إنما هو للمهلة والصديد‏.‏

ودفن ليلًا وصلى عليه عمر بن الخطاب في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكبر عليه أربعًا وحمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودخل قبره ابنه عبد الرحمن وعمر وعثمان وطلحة وجعل رأسه عند كتفي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وألصقوا لحده بلحد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعل قبره مثل قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسطحًا‏.‏

وأقامت عائشة عليه النوح فنهاهن عن البكاء عمر فأبين فقال لهشام بن الوليد‏:‏ ادخل فأخرج إلي ابنة أبي قحافة فأخرج إليه أم فروة ابنة أبي قحافة فعلاها بالدرة ضربات فتفرق النوح حين سمعن ذلك‏.‏

وكان آخر ما تكلم به‏:‏ توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين‏.‏

وكان أبيض خفيف العارضين أحنى لا يستمسك إزاره معروق الوجه نحيفًا أقنى غائر العينين يخضب بالحناء والكتم وكان أبوه حيًا بمكة لما توفي‏.‏

وهو أبو بكر عبد الله وقيل‏:‏ عتيق بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعيد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك يجتمع مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرة بن كعب وأمه أم الخير سلمى بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم‏.‏

وقيل‏:‏ إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له‏:‏ ‏(‏أنت عتيق من النار‏)‏ فلزمه وقيل‏:‏ إنما قيل له عتيق لرقة حسنه وجماله‏.‏

وأسلمت أمه قديمًا بعد إسلام أبي بكر وتزوج في الجاهلية قتيلة بنت عبد العزى بن عامر بن لؤي فولدت له عبد الله وأسماء وتزوج أيضًا في الجاهلية أم رومان واسمها دعد بنت عامر بن عميرة الكنانية فولدت له عبد الرحمن وعائشة وتزوج في الإسلام أسماء بنت عميس وكانت قبله عند جعفر بن أبي طالب فولدت له محمد بن أبي بكر وتزوج أيضًا في الإسلام حبيبة بنت خارجة بن زيد الأنصارية فولدت له بعد وفاته أم كثلوم‏.‏

أسماء قضاته وعماله وكتابه لما ولي أبو بكر قال له أبو عبيدة‏:‏ أنا أكفيك المال‏.‏

وقال له عمر‏:‏ أنا أكفيك القضاء‏.‏

فمكث عمر سنة لا يأتيه رجلان‏.‏

وكان علي بن أبي طالب يكتب له وزيد بن ثابت وعثمان بن عفان

وكان يكتب له من حضر‏.‏

وكان عامله على مكة عتاب بن أسيد ومات في اليوم الذي مات فيه أبو بكر وقيل‏:‏ مات بعده‏.‏

وكان على الطائف عثمان بن أبي العاص وعلى صنعاء المهاجر بن أبي أمية وعلى حضرموت زياد بن لبيد الأنصاري وعلى خولان يعلى بن منية وعلى زبيد ورمع أبو موسى وعلى الجند معاذ بن جبل وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي‏.‏وبعث جرير بن عبد الله إلى نجران وعبد الله بن ثور إلى جرش وعياض بن غنم إلى دومة الجندل‏.‏

وكان بالشام أبو عبيدة وشرحبيل ويزيد وعمرو وكل رجل منهم على جند وعليهم خالد ابن الوليد‏.‏

وكان نقش خاتمه‏:‏ نعم القادر الله‏.‏

وعاش أبوه بعده ستة أشهر وأيامًا ومات وله سبع وتسعون سنة‏.‏

 ذكر بعض أخباره ومناقبه

كان أبو بكر أول الناس إسلامًا في قول بعضهم وقد تقدم الخلاف في ذلك وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة غير أبي بكر‏)‏‏.‏ والذي ورد له عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المناقب كثير كشهادته له بالجنة وعتقه من النار وغير ذلك من الإخبار بخلافته تعريضًا كقوله‏:‏ ـ صلى الله عليه ـ وسلم للمرأة ـ‏:‏ ‏(‏إن لم تجديني فأتي أبا وشهد بدرًا وأحدًا والخندق وغير ذلك من المشاهد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأعتقد سبعة نفر كلهم يعذب في الله تعالى منهم بلال وعامربن فهيرة وزنيرة والنهدية وابنها وجارية بني مؤمل وأم عبيس وأسلم‏.‏

وله أربعون ألفًا أنفقها في الله مع ما كسب في التجارة‏.‏

ولما ولي الخلافة وارتدت العرب خرج شاهرًا سيفه إلى ذي القصة فجاءه علي وأخذ بزمام راحلته وقال له‏:‏ أين يا خليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏!‏ أقول لك ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد‏:‏ شم سيفك لا تفجعنا بنفسك فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام نظام فرجع وأمضى الجيش‏.‏

وكانت له بيت مال بالسنح وكان يسكنه إلى أن انتقل إلى المدينة فقيل له‏:‏ ألا نجعل عليه من يحرسه قال‏:‏ لا‏.‏

فكان ينفق جميع ما فيه على المسلمين فلا يبقى فيه شيء فلما انتقل إلى المدينة جعل بيت المال معه في داره‏.‏

وفي خلافته انفتح معدن بني سليم وكان يسوي في قسمته بين السابقين الأولين والمتأخرين في الإسلام وبين الحر والعبد والذكر والأنثى فقيل له‏:‏ لتقدم أهل السبق على قدر منازلهم فقال‏:‏ إنما أسلموا لله ووجب أجرهم عليه يوفيهم ذلك في الآخرة وإنما هذه الدنيا بلاغٌ‏.‏

وكان يشتري الأكسية ويفرقها في الأرامل في الشتاء‏.‏

ولما توفي أبو بكر جمع عمر الأمناء وفتح بيت المال فلم يجدوا فيه شيئًا غير دينار سقط من غرارة فترحموا عليه‏.‏

قال أبو صالح الغفاري‏:‏ كان عمر يتعهد امرأةً عمياء في المدينة بالليل فيقوم بأمرها فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها ففعل ما أرادت فرصده عمر فإذا هو أبو بكر كان يأتيها ويقضي أشغالها سرًا وهو خليفة فقال له‏:‏ أنت هو لعمري‏!‏ قال أبو بكر بن حفص بن عمر‏:‏ لما حضرت أبا بكر الوفاة حضرته عائشة وهو يعالج الموت فتمثلت‏:‏ لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر فنظر إليها كالغضبان ثم قال‏:‏ ليس كذلك ولكن ‏{‏وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 19‏]‏ ـ رضي الله عنه ـ إني قد كنت نحلتك حائط كذا وفي نفسي منه شيء فرديه على الميراث فردته فقال‏:‏ إنما هما أخواك وأختك‏.‏

قالت‏:‏ من الثانية إنما هي أسماء‏.‏

قال‏:‏ ذات بطن بنت خارجة يعني زوجته وكانت حاملًا فولدت أم كلثوم بعد موته‏.‏

وقال لها‏:‏ أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارًا ولا درهمًا ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم ولبسنا من خشن ثيابهم وليس عندنا من فيء المسليمن قليل ولا كثير إلا هذا العبد وهذا البعير وهذه القطيفة فإذا مت فابعثي بالجميع إلى عمر‏.‏

فلما مات بعثته إلى عمر فلما رآه بكى حتى سالت دموعه إلى الأرض وجعل يقول‏:‏ رحم الله أبا بكر‏!‏ لقد أتعب من بعده ويكرر ذلك وأمر برفعه‏.‏

فقال عبد الرحمن ابن عوف‏:‏ سبحان الله‏!‏ تسلب عيال أبي بكر عبدًا وناضحًا وسحق قطيفة ثمنها خمسة دراهم فلو أمرت بردها إليهم‏.‏

فقال‏:‏ لا والذي بعث محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحق لا يكون هذا في ولايتي ولا خرج أبو بكر منه وأتقلده أنا‏.‏

وأمر أبو بكر أن يرد جميع ما أخذ من بيت المال لنفقته بعد وفاته‏.‏

وقيل‏:‏ إن زوجته اشتهت حلوًا فقال‏:‏ ليس لنا ما نشتري به‏.‏

فقالت‏:‏ أنا أستفضل من نفقتنا في عدة أيام ما نشتري به‏.‏

قال‏:‏ افعلي‏.‏

ففعلت ذلك فاجتمع لها في أيام كثيرة شيء يسير فلما عرفته ذلك ليشتري به حلوًا أخذه فرده إلى بيت المال وقال‏:‏ هذا يفضل عن قوتنا وأسقط من نفقته بمقدار ما نقصت كل يوم وغرمه لبيت المال من ملك كان له‏.‏

هذا والله هو التقوى الذي لا مزيد عليه وبحق قدمه الناس رضي الله عنه وأرضاه‏.‏وكان منزل أبي بكر بالسنح عند زوجته حبيبة بنت خارجة فأقام هنالك ستة أشهر بعد ما بويع له وكان يغدو على رجليه إلى المدينة وربما ركب فرسه فيصلي بالناس فإذا صلى العشاء رجع إلى السنح وكان إذا غاب صلى بالناس عمر‏.‏

وكان يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع ويبتاع وكانت له قطعة غنم تروح عليه وربما خرج هو بنفسه فيها وربما رعيت له وكان يحلب للحي أغنامهم فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم‏:‏ الآن لا يحلب لنا منائح دارنا فسمعها فقال‏:‏ بلى لعمري لأحلبنها لكم وإني لأرجو أن لا يغير بي ما دخلت فيه‏.‏

فكان يحلب لهم‏.‏

ثم تحول إلى المدينة بعد ستة أشهر من خلافته وقال‏:‏ ما تصلح أمور الناس مع التجارة وما يصلح إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم فترك التجارة وأنفق من مال المسلمين ما يصلحه وعياله يومًا بيوم ويحج ويعتمر فكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم وقيل‏:‏ فرضوا له ما يكفيه فلما حضرته الوفاة أوصى أن تباع أرض له ويصرف ثمنها عوض ما أخذه من مال المسلمين‏.‏

وكان أول والٍ فرض له رعيته نفقته وأول خليفة ولي وأبوه حي وأول من سمى مصحف القرآن مصحفًا وأول من سمي خليفة‏.‏

زنيرة بكسر الزاي والنون المشددة‏.‏

وعبيس بضم العين المهملة وبالباء الموحدة المفتوحة ثم بالياء المثناة من تحت وبالسين المهملة‏.‏

ومنية بالنون الساكنة والياء تحتها نقطتان‏.‏

 ذكر استخلافه عمر بن الخطاب

لما نزل بأبي بكر رضي الله عنه الموت دعا عبد الرحمن بن عوف فقال‏:‏ أخبرني عن عمر‏.‏

فقال‏:‏ إنه أفضل من رأيك إلا أنه فيه غلظة‏.‏

فقال أبو بكر‏:‏ ذلك لأنه يراني رقيقًا ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرًا مما هو عليه وقد رمقته فكنت إذا غضبت على رجل أراني الرضاء عنه وإذا لنت له أراين الشدة عليه‏.‏

ودعا عثمان بن عفان وقال له‏:‏ أخبرني عن عمر‏.‏

فقال‏:‏ سريرته خير من علانيته وليس فينا مثله‏.‏

فقال أبو بكر لهما‏:‏ لا تذكرا مما قلت لكما شيئًا ولو تركته ما عدوت عثمان والخيرة له أن لا يلي من أموركم شيئًا ولوددت أني كنت من أموركم خلوًا وكنت فيمن مضى من سلفكم‏.‏ودخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر فقال‏:‏ استخلفت على الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه وكيف به إذا خلا بهم وأنت لاقٍ ربك فسائلك عن رعيتك‏!‏ فقال أبو بكر‏:‏ أجلسوني فأجلسوه فقال‏:‏ أبالله تخوفني‏!‏ إذا لقيت ربي فسألني قلت‏:‏ استخلفت على أهلك خير أهلك‏.‏

ثم إن أبا بكر أحضر عثمان بن عفان خاليًا ليكتب عهد عمر فقال له‏:‏ اكتب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين أما بعد‏.‏

ثم أغمي عليه فكتب عثمان‏:‏ أما بعد فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرًا‏.‏

ثم أفاق أبو بكر فقال‏:‏ اقرأ علي‏.‏

فقرأ عليه فكبر أبو بكر وقال‏:‏ اراك خفت أن يختلف الناس إن مت في فلما كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس فجمعهم وأرسل الكتاب مع مولى له ومعه عمر فكان عمر يقول للناس‏:‏ أنصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه لم يألكم نصحًا‏.‏

فسكن الناس فلما قرىء عليهم الكتاب سمعوا وأطاعوا وكان أبو بكر أشرف على الناس وقال‏:‏ أترضون بمن استخلفت عليكم فإني ما استخلفت عليكم ذا قرابة وإني قد استخلفت عليكم عمر فاسمعوا له وأطيعوا فإني والله ما ألوت من جهد الرأي‏.‏

فقالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا‏.‏

ثم أحضر أبو بكر عمر فقال له‏:‏ إني قد استخلفتك على أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأوصاه بتقوى الله ثم قال‏:‏ يا عمر إن لله حقًا بالليل لا يقبله في النهار وحقًا في النهار لا يقبله بالليل وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة ألم تر يا عمر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه غدًا إلا حق أن يكون ثقيلًا‏.‏

ألم تر يا عمر أنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم وحق لميزان أن يوضع فيه غدًا إلا باطل أن يكون خفيفًا‏.‏

ألم تر يا عمر أنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبًا راهبًا لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له ولا يرهب رهبةً يلقي فيها بيديه‏.‏

أو لم تر يا عمر أنما ذكر أهل النار بأسوإ أعمالهم فإذا ذكرتهم قلت إني لأرجو أن لا أكون منهم وأنه إنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه يجاوز لهم ما كان من سيء فإذا ذكرتهم قلت أين عملي من أعمالهم فإن حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من حاضر من الموت ولست بمعجزه‏.‏

وتوفي أبو بكر فلما دفن صعد عمر بن الخطاب فخطب الناس ثم قال‏:‏ ‏(‏إنما مثل العرب مثل جمل آنف اتبع قائده فلينظر قائده حيث يقوده وأما أنا فورب الكعبة لأحملنكم على الطريق‏)‏‏!‏ وكان أول كتاب كتبه إلى أبي عبيدة بن الجراح بتولية جند خالد وبعزل خالد لأنه كان عليه ساخطًا في خلافة أبي بكر كلها لوقعته بابن نويرة وما كان يعمل في حربه وأول ما تكلم به عزل خالد وقال‏:‏ لا يلي لي عملًا أبدًا وكتب إلى أبي عبيدة‏:‏ إن أكذب خالد نفسه فهو الأمير على ما كان عليه وإن لم يكذب نفسه فأنت الأمير على ما هو عليه وانزع عمامته عن رأسه وقاسمه ماله‏.‏

فذكر ذلك لخالد فاستشار أخته فاطمة وكانت عند الحارث بن هشام فقالت له‏:‏ والله لا يحبك عمر أبدًا وما يريد إلا أن تكذب نفسك ثم ينزعك‏.‏

فقبل رأسها وقال‏:‏ صدقت فأبى أن يكذب نفسه فأمر أبو عبيدة فنزع عمامة خالد وقاسمه ماله ثم قدم خالد على عمر بالمدينة وقيل‏:‏ بل هو أقام بالشام مع المسلمين وهو أصح‏.‏

قيل‏:‏ ولما هزم أهل اليرموك استخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير ابن كعب الحميري وسار حتى نزل بالصفر فأتاه الخبر أن المنهزمين اجتمعوا بفحل وأتاه الخبر أيضًا بأن المدد قد أتى أهل دمشق من حمص فكتب إلى عمر في ذلك فأجابه عمر يأمره بأن يبدأ بدمشق فإنها حصن الشام وبيت ملكهم وأن يشغل أهل فحل بخيل تكون بإزائهم وإذا فتح دمشق سار إلى فحل فإذا فتحت عليهم سار هو وخالد إلى حمص وترك شرحبيل ابن حسنة وعمرًا بالأردن وفلسطين‏.‏

فأرسل أبو عبيدة إلى فحل طائفة من المسلمين فنزلوا قريبًا منها وبثق الروم الماء حول فحل فوحلت الأرض فنزل عليها المسلمون فكان أول محصور بالشام أهل فحل ثم أهل دمشق‏.‏

وبعث أبو عبيدة جندًا فنزلوا بين حمص ودمشق وأرسل جندًا آخر فكانوا بين دمشق وفلسطين وسار أبو عبيدة وخالد فقدموا على دمشق وعليها نسطاس فنزل أبو عبيدة على ناحية وخالد على ناحية وعمرو على ناحية وكان هرقل قريب حمص فحصرهم المسلمون سبعين ليلة حصارًا شديدًا وقاتلوهم بالزحف والمجانيق وهم معتصمون بالمدينة يرجعون الغياث وجاءت خيول هرقل مغيثة دمشق فمنعتها خيول المسلمين التي عند حمص فخذل أهل دمشق وطمع فيهم المسلمون‏.‏

وولد للبطريق الذي على أهلها مولود فصنع طعامًا فأكل القوم وشربوا وتركوا مواقفهم ولا يعلم بذلك أحد من المسلمين إلا ما كان من خالد فإنه كان لا ينام ولا ينيم ولا يخفى عليه من أمورهم شيء عيونه ذكية وهو معني بما يليه وكان قد اتخذ حبالًا كهيئة السلاليم وأوهاقًا فلما أمسى ذلك اليوم نهد هو ومن معه من جنده الذين قدم عليهم وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي وأمثاله وقالوا‏:‏ إذا سمعتم تكبيرًا على السور فارقوا إلينا واقصدوا الباب‏.‏

فلما وصل هو وأصحابه إلى السور ألقوا الحبال فعلق بالشرف منها حبلان فصعد فيهما القعقاع ومذعور وأثبتا الحبال بالشرف وكان ذلك المكان أحصن موضع بدمشق وأكثره ماء وأشده مدخلًا فصعد المسلمون ثم انحدر خالد وأصحابه وترك بذلك المكان من يحميه وأمرهم بالتكبير فكبروا فأتاهم المسلمون إلى الباب وإلى الحبال وانتهى خالد إلى من يليه فقتلهم وقصد الباب فقتل البوابين وثار أهل المدينة لا يدرون ما الحال وتشاغل أهل كل ناحية بما يليهم وفتح خالد الباب وقتل كل من عنده من الروم‏.‏

فلما رأى الروم ذلك قصدوا أبا عبيدة وبذلوا له الصلح فقبل منهم وفتحوا له الباب وقالوا له‏:‏ ادخل وامنعنا من أهل ذلك الجانب ودخل أهل كل باب بصلح مما يليهم‏.‏

ودخل خالد عَنْوةً فالتقى خالد والقواد في وسطها هذا قتلًا ونهبًا وهذا صفحًا وتسكينًا فأجروا ناحية خالد مجرى الصلح وكان صلحهم على المقاسمة وقسموا معهم للجنود التي عند فحل وعند حمص وغيرهم ممن هو ردء للمسلمين‏.‏

وأرسل أبو عبيدة إلى عمر بالفتح فوصل كتاب عمر إلى أبي عبيدة يأمره بإرسال جند العراق نحو العراق إلى سعد بن أبي وقاص فأرسلهم وأمر عليهم هاشم بن عتبة المرقال وكانوا قد قتل منهم فأرسل أبو عبيدة عوض من قتل وكان ممن ارسل الأشتر وغيره وسار أبو عبيدة إلى فحل‏.‏

 ذكر غزوة فحل

فلما فتحت دمشق سار أبو عبيدة إلى فحل واستخلف على دمشق يزيد ابن أبي سفيان وبعث خالدًا على المقدمة وعلى الناس شرحبيل بن حسنة وكان على المجنبتين أبو عبيدة وعمرو بن العاص وعلى الخيل ضرار بن الأزور وعلى الرجال عياض بن غنم وكان أهل فحل قد قصدوا بيسان فهم بها فنزل شرحبيل بالناس فحلًا وبينهم وبين الروم تلك المياه والأوحال وكتبوا إلى عمر وكانت العرب تسمي تلك الغزاة ذات الردغة وبيسان وفحل‏.‏

وأقام الناس ينتظرون كتاب عمر فاغترهم الروم فخرجوا وعليهم سقلار بن مخراق فأتوهم والمسلمون حذرون وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبية‏.‏

فلما هجموا على المسلمين لم يناظروهم فاقتتلوا أشد قتال كان لهم ليلتهم ويومهم إلى الليل وأظلم الليل عليهم وقد حاروا فانهزم الروم وهم حيارى وقد أصيب رئيسهم سقلار والذي يليه فيهم نسطورس وظفر المسلمون بهم وركبوهم ولم تعرف الروم مأخذهم فانتهت بهم الهزيمة إلى الوحل فركبوه ولحقهم المسلمون فأخذوهم ولا يمنعون يدلامس فوخزوهم بالرماح فكانت الهزيمة بفحل والقتل بالرداغ فأصيب الروم وهم ثمانون ألفًا لم يفلت منهم إلا الشريد وقد كان الله يصنع للمسلمين وهم كارهون كرهوا البثوق والوهل فكانت عونًا لهم على عدوهم وغنموا أموالهم فاقتسموها‏.‏

وانصرف أبو عبيدة بخالد ومن معه إلى حمص‏.‏

وممن قتل في هذه الحرب السائب بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي له صحبة‏.‏

فحل بكسر الفاء وسكون الحاء المهملة وآخره لام‏.‏

 ذكر فتح بلاد ساحل دمشق

لما استخلف أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان على دمشق وسار إلى فحل سار يزيد إلى مدينة صيدا وعرقة وجبيل وبيروت وهي سواحل دمشق على مقدمته أخوه معاوية ففتحها فتحًا

يسيرًا وجلا كثيرٌ من أهلها وتولى فتح عرقة معاوية بنفسه في ولاية يزيد‏.‏

ثم إن الروم غلبوا على بعض هذه السواحل في آخر خلافة عمر وأول خلافة عثمان فقصدهم معاوية ففتحها ثم رمها وشحنها بالمقاتلة وأعطاهم القطائع‏.‏

ولما ولي عثمان الخلافة وجمع لمعاوية الشام وجه معاوية سفيان بن مجيب الأزدي إلى طرابسل وهي ثلاث مدن مجتمعة ثم بنى في مرج على أميال منها حصنًا سمي حصن سفيان وقطع المادة عن أهلها من البر والبحر وحاصرهم‏.‏

فلما اشتد عليهم الحصار اجتمعوا في أحد الحصون الثلاثة وكتبوا إلى ملك الروم يسألونه أن يمدهم أو يبعث إليهم بمراكب يهربون فيها إلى بلاد الروم فوجه إليهم بمراكب كثيرة ركبوا فيها ليلًا وهربوا‏.‏

فلما أصبح سفيان وكان يبيت هو والمسلمون في حصنه ثم يغدو على العدو وجد الحصن خاليًا فدخله وكتب بالفتح إلى معاوية فأسكنه معاوية جماعة كثيرة من اليهود وهو الذي فيه المينا اليوم ثم بناه عبد الملك بن مروان وحصنه ثم نقض أهله أيام عبد الملك ففتحه ابنه الوليد في زمانه‏.‏

 ذكر فتح بيسان وطبرية

لما قصد أبو عبيدة حمص من قحل أرسل شرحبيل ومن معه إلى بيسان فقاتلوا أهلها فقتلوا

منهم خلقًا كثيرًا ثم صالحهم من بقي على صلح دمشق فقبل ذلك منهم‏.‏وكان أبو عبيدة قد بعث بالأعور إلى طربية يحاصرها فصالحه أهلها على صلح دمشق أيضًا وأن يشاطروا المسلمين المنازل فنزلها القواد وخيولها وكتبوا بالفتح إلى عمر‏.‏

قال أبو جعفر‏:‏ وقد اختلفوا في أي هذه الغزوات كان قبل الأخرى فقيل ما ذكرنا وقيل‏:‏ إن المسلمين لما فرغوا من أجنادين اجتمع المنهزمون بفحل فقصدها المسلمون فظفروا بها‏.‏

ثم لحق المنهزمون من فحل بدمشق فقصدها المسلمون فحاصروها وفتحوها وقدم كتاب عمر بن الخطاب بعزل خالد وولاية أبي عبيدة وهم محاصرون دمشق فلم يعرفه أبو عبيدة ذلك حتى فرغوا من صلح دمشق وكتب الكتاب باسم خالد وأظهر أبو عبيدة بعد ذلك عزله وكانت فحل في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة وفتح دمشق في رجب سنة أربع عشرة وقيل‏:‏ إن وقعة اليرموك كانت سنة خمس عشرة ولم تكن للروم بعدها وقعة وإنما اختلفوا لقرب بعض ذلك من بعض‏.‏

 ذكر خبر المثنى بن حارثة وأبي عبيد بن مسعود

قد ذكرنا قدوم المثنى بن حارثة الشيباني من العراق على أبي بكر ووصية أبي بكر عمر بالمبادرة إلى إرسال الجيوش مع فلما أصبح عمر من الليلة التي مات فيها أبو بكر كان أول ما عمل أن ندب الناس مع المثنى بن حارثة الشبياني إلى أهل فارس ثم بايع الناس ثم ندب الناس وهو يبايعهم ثلاثًا ولا ينتدب أحد إلى فارس وكانوا أثقل الوجوه على المسلمين وأكرهها إليهم لشدة سلطانهم وشوكتهم وقهرهم الأمم فلما كان اليوم الرابع ندب الناس إلى العراق فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود الثقفي وهو والد المختار وسعد بن عبيد الأنصاري وسليط بن قيس وهو ممن شهد بدرًا وتتابع الناس‏.‏ وتكلم المثنى بن حارثة فقال‏:‏ أيها الناس لا يعظمن عليكم هذا الوجه فإنا قد فتحنا ريف فارس وغلبناهم على خير شقي السواد ونلنا منهم واجترأنا عليهم ولنا إن شاء الله ما بعدها‏.‏

فاجتمع الناس فقيل لعمر‏:‏ أمر عليهم رجلًا من السابقين من المهاجرين أو الأنصار‏.‏

قال‏:‏ لا والله لا أفعل إنما رفعهم الله تعالى بسبقهم ومسارعتهم إلى العدو فإذا فعل فعلهم قوم وتثاقلوا كان الذين ينفرون خفافًا وثقالًا ويسبقون إلى الرفع أولى بالرئاسة منهم والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابًا‏!‏ ثم دعا أبا عبيد وسعدًا وسليطًا وقال لهما‏:‏ لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتما بها إلى ما لكما من السابقة فأمر ابا عبيد على الجيش وقال له‏:‏ اسمع من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأشركهم في الأمر ولا تجتهد مسرعًا حتى تتبين ولم يمنعني أن أؤمر سليطًا إلا سرعته إلى الحرب وفي التسرع إلى الحرب ضياع إلا عن بيان فإنه لا يصلحها إلا المكيث‏.‏وأوصاه بجنده‏.‏

فكان بعث أبي عبيد أول جيش سيره عمر ثم بعده سير يعلى بن منية إلى اليمن وأمره بإجلاء أهل نجران بوصية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن لا يجتمع بجزيرة العرب دينان‏.‏

ذكر خبر النمارق فسار أبو عبيدة الثقفي وسعد بن عبيد وسليط بن قيس الأنصاريان والمثنى بن حارثة الشيباني أحد بني هند من المدينة وأمر عمر المثنى بالتقدم إلى أن يقدم عليه أصحابه وأمرهم باستنفار من حسن إسلامه من أهل الردة‏.‏

ففعلوا ذلك وسار المثنى فقدم الحيرة وكانت الفرس تشاغلت عن المسلمين بموت شهربراز حتى اصطلحوا على سابور بن شهريار بن أردشير فثارت به آزرميدخت فقتلته وقتلت الفرخزاد وملكت بوران وكانت عدلًا بين الناس حتى يصطلحوا فأرسلت إلى رستم بن الفرخزاد بالخبر وتحثه على السير وكان على فرج خراسان فأقبل لا يلقى جيشًا لآزرميدخت إلا هزمه حتى دخل المدائن فاقتتلوا وهزم سياوخش وحصره وآزرميدخت بالمدائن‏.‏

ثم افتتحها رستم وقتل سياوخش وفقأ عين آزرميدخت ونصب بوران على أن تملكه عشر سنين ثم يكون الملك في آل كسرى إن وجدوا من غلمانهم أحدًا وإلا ففي نسائهم ودعت مرازبة فارس وأمرتهم أن يسمعوا له ويطيعوا وتوجته فدانت له فارس قبل قدوم أبي عبيد‏.‏

وكان منجمًا حسن المعرفة به وبالحوادث فقال له بعضهم‏:‏ ما حملك على هذا الأمر وأنت ترى ما ترى قال‏:‏ حب الشرف والطمع‏.‏

ثم قدم المثنى إلى الحيرة في عشر وقدم أبو عبيد بعده بشهر‏.‏

فكتب رستم إلى الدهاقين أن يثوروا بالمسلمين وبعث في كل رستاق رجلًا يثور بأهله فبعث جابان إلى فرات بادقلي وبعث نرسي إلى كسكر ووعدهم يومًا وبعث جندًا لمصادمة المثنى‏.‏

وبلغ المثنى الخبر فحذر فضم إليه مسالحه وعجل جابان ونزل النمارق وثاروا وتوالوا على الخروج وخرج أهل الرساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله وخرج المثنى من الحيرة فنزل خفان لئلا يؤتى من خلفه بشيء يكرهه وأقام حتى قدم عليه أبو عبيد‏.‏

فلما قدم لبث أيامًا يستريح هو وأصحابه واجتمع إلى جابان بشر كثير فنزل النمارق وسار إليه أبو عبيد فجعل المثنى على الخيل وكان على مجنبتي جابان جشنس ماه ومردانشاه فاقتتلوا بالنمارق قتالًا شديدًا فهزم الله أهل فارس وأسر جابان أسره مطر بن فضة التيمي وأسر مردانشاه وأسره أكتل بن شماخ العكلي فقتله‏.‏

وأما جابان فإنه خدع مطرًا وقال له‏:‏ هل لك أن تؤمنني وأعطيك غلامين أمردين خفيفين في عملك وكذا وكذا ففعل فخلى عنه فأخذه المسلمون وأتوا به أبا عبيد وأخبروه أنه جابان وأشاروا عليه بقتله‏.‏

فقال‏:‏ إني أخاف الله أن أقتله وقد آمنه رجل مسلم والمسلمون كالجسد الواحد ما لزم بعضهم فقد لزم كلهم وتركوه‏.‏

وأرسل في طلب المنهزمين حتى أدخلوهم عسكر نرسي وقتلوا منهم‏.‏

أكتل بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح التاء المثناة باثنتين من فوقها وفي آخره لام‏.‏

 ذكر وقعة السقاطية بكسكر

ولحق المنهزمون نحو كسكر وبها نرسي وهو ابن خالة الملك وكان له النرسيان وهو نوع من التمر يحميه لا يأكله إلا ملك الفرس أو من أكرموه بشيء منه ولا يغرسه غيرهم واجتمع إلى النرسي الفالة وهو في عسكره فسار أبو عبيد إليهم من النمارق فنزل على نرسي بكسكر وكان المثنى في تعبيته التي قاتل فيها بالنمارق وكان على مجنبتي نرسي بندويه وتيرويه ابنا بسطام خال الملك ومعه أهل باروسما والزوابي‏.‏

ولما بلغ الخبر بوران ورستم بهزيمة جابان بعثا الجالينوس إلى نرسي فلحقه قبل الحرب فعاجلهم أبو عبيد فالتقوا أسفل من كسكر بمكان يدعى السقاطية فاقتتلوا قتالًا شديدًا ثم انهزمت فارس وهرب نرسي وغلب المسلمون على عسكره وأرضه وجمعوا الغنائم فرأى أبو عبيد من الأطعمة شيئًا كثيرًا فنفله من حوله من العرب وأخذوا النرسيان فأطعموه الفلاحين وبعثوا بخمسه إلى عمر وكتبوا إليه‏:‏ ‏(‏إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة تحميها وأحببنا أن تروها لتشكروا إنعام الله وإفضاله‏)‏‏.‏

وأقام أبو عبيد وبعث المثنى إلى باروسما وبعث والقًا إلى الزوابي وعاصمًا إلى نهر جوبر فهزموا من كان تجمع وأخربوا وسبوا أهل زندورد وغيرها وبذل لهم فروخ وفراونداد عن أهل باروسما والزوابي وكسكر الجزاء معجلًا فأجابوا إلى ذلك وصاروا صلحًا وجاء فروخ وفراوندد إلى أبي عبيد بأنواع الطعام والأخبصة وغيرها فقال‏:‏ هل أكرمتم الجند بمثلها فقالوا‏:‏ لم يتيسر ونحن فاعلون وكانوا يتربصون قدوم الجالينوس‏.‏

فقال أبو عبيد‏:‏ لا حاجة لنا فيه بئس المرء أبو عبيد إن صحب قومًا من بلادهم استأثر عليهم بشيء ولا والله لا آكل ما أتيتم به ولا مما أفاء الله إلا مثل ما يأكل أوساطهم‏.‏

فلما هزم الجالينوس أتوه بالأطعمة أيضًا فقال‏:‏ ما آكل هذا دون المسلمين‏.‏فقالوا له‏:‏ ليس من أصحابك أحد إلا وقد أتي بمثل هذا فأكل حينئذٍ‏.‏

 ذكر وقعة الجالينوس

ولما بعث رستم الجالينوس أمره أن يبدأ بنرسي ثم يقاتل أبا عبيد فبادره أبو عبيد إلى نرسي فهزمه وجاء الجالينوس فنزل بباقسياثا من باروسما فسار إليه أبو عبيد وهو على تعبيته فالتقوا بها فهزمهم المسلمون وهرب الجالينوس وغلب أبو عبيد على تلك البلاد ثم ارتحل حتى قدم الحيرة وكان عمر قد قال له‏:‏ إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجبرية تقدم على قوم تجرأوا على الشر فعلموه وتناسوا الخير فجهلوه فانظر كيف تكون واحرز لسانك ولا تفشين سرك فإن صاحب السر ما يضبطه متحصن ولا يؤتى من وجه يكرهه وإذا ضيعه كان بمضيعة‏.‏

 ذكر وقعة قس الناطف

ويقال لها الجسر ويقال المروحة وقتل أبي عبيد بن مسعود ولما رجع الجالينوس إلى رستم منهزمًا ومن معه من جنده قال رستم‏:‏ أي العجم أشد على العرب قال‏:‏ بهمن جاذويه المعروف بذي الحاجب وإنما قيل له ذو الحاجب لأنه كان يعصب حاجبيه بعصابة ليرفعهما كبرًا‏.‏

فوجهه ومعه فيلة ورد الجالينوس معه وقال لبهمن‏:‏ إن انهزم الجالينوس ثانيةً فاضرب عنقه‏.‏

فأقبل بهمن جاذويه ومعه درفش كابيان راية كسرى وكانت من جلود النمر عرض ثمانية أذرع وطول اثني عشر ذراعًا فنزل بقس الناطف‏.‏

وأقبل أبو عبيد فنزل بالمروحة فرأت دومة امرأته أم المختار ابنه أن رجلًا نزل من الساء بإناء فيه شراب فشرب أبو عبيد ومعه نفر فأخبرت بها أبا عبيد فقال‏:‏ لهذه إن شاء الله الشهادة‏!‏ وعهد إلى الناس فقال‏:‏ إن قتلت فعلى الناس فلان فإن قتل فعليهم فلان حتى أمر الذين شربوا من الإناء ثم قال‏:‏ فإن قتل فعلى الناس المثنى‏.‏

وبعث إليه بهمن جاذويه‏:‏ إما أن تعبر إلينا وندعكم والعبور وإما أن تدعونا نعبر إليكم‏.‏

فنهاه الناس عن العبور ونها سليط أيضًا فلج وترك الرأي وقال‏:‏ لا يكونوا أجرأ على الموت منا‏.‏

فعبر إليهم على جسر عقده ابن صلوبا للفريقين وضاقت الأرض بأهلها واقتتلوا فلما نظرت الخيول إلى الفيلة والخيل عليها التجافيف رأت شيئًا منكرًا لم تكن رأت مثله فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم لم تقدم عليهم خيولهم وإذا حملت الفرس على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرقت خيولهم وكراديسهم ورموهم بالنشاب‏.‏

واشتد الأمر بالمسلمين فترجل أبو عبيد والناس ثم مشوا إليهم ثم صافحوهم بالسيوف فجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم فنادى أبو عبيد‏:‏ احتوشوا الفيلة واقطعوا بطانها واقلبوا عنها أهلها ووثب هو على الفيل الأبيض فقطع بطانه ووقع الذين عليه وفعل القوم مثل ذلك فما تركوا فيلًا إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه‏.‏ وأهوى الفيل لأبي عبيد فضربه أبو عبيد بالسيف وخبطه الفيل بيده فوقع فوطئه الفيل وقام عليه‏.‏

فلما بصر به الناس تحت الفيل خشعت أنفس بعضهم ثم أخذ اللواء الذي كان أمره بعده فقاتل الفيل حتى تنحى عن أبي عبيد فأخذه المسلمون فأحرزوه ثم قتل الفيل الأمير الذي بعد أبي عبيد وتتابع سبعة أنفس من ثقيف كلهم يأخذ اللواء ويقاتل حتى يموت ثم أخذ اللواء المثنى فهرب عنه الناس‏.‏فلما رأى عبد الله بن مرثد الثقفي ما لقي أبو عبيد وخلفاؤه وما يصنع الناس بادرهم إلى الجسر فقطعه وقال‏:‏ يا أيها الناس موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا‏!‏ وحاز المشركون المسلمين إلى الجسر فتواثب بعضهم إلى الفرات فغرق من لم يصبر وأسرعوا فيمن صبر وحمى المثنى وفرسان من المسلمين الناس وقال‏:‏ إنا دونكم فاعبروا على هينتكم ولا تدهشوا فإنا لن نزايل حتى نراكم من ذلك الجانب ولا تغرقوا نفوسكم فعبروا الجسر‏.‏

وقاتل عروة بن زيد الخيل قتالًا شديدًا وأبو محجن الثقفي وقاتل أبو زبيد الطائي حمية للعربية وكان نصرانيًا قدم الحيرة لبعض أمره ونادى المثنى‏:‏ من عبر نجا‏.‏

فجاءه العلوج فعقدوا الجس وعبر الناس‏.‏وكان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس وعبر المثنى وحمى جانبه فلما عبر ارفض عنه وأخبر عمر عمن سار في البلاد من الهزيمة استحياء فاشتد عليه وقال‏:‏ اللهم إن كل مسلم في حل مني أنا فئة كل مسلم يرحم الله أبا عبيد‏!‏ لو كان انحاز إلي لكنت له فئة‏.‏

وهلك من المسلمين أربعة آلاف بين قتيل وغريق وهرب الفان وبقي ثلاثة آلاف وقتل من الفرس ستة آلاف‏.‏

وأراد بهمن جاذويه العبور خلف المسلمين فأتاه الخبر باختلاف الفرس وأنهم قد ثاروا برستم ونقضوا الذي بينهم وبينه وصاروا فريقين‏:‏ الفهلوج على رستم وأهل فارس على الفيرزان فرجع إلى المدائن‏.‏ وكانت هذه الوقعة في شعبان‏.‏

وكان فيمن قتل بالجسر عقبة وعبد الله ابنا قبطي بن قيس وكانا شهدا أحدًا وقتل معهما أخوهما عباد ولم يشهد معهما أحدًا وقتل أيضًا قيس ابن السكن بن قيس أبو زيد الأنصاري وهو بدري لا عقب له وقتل يزيد بن قيس بن الحطيم الأنصاري شهد أحدًا وفيها قتل أبو أمية الفزاري له صحبة والحكم بن مسعود أخو أبي عبيد وابنه جبر بن الحكم ابن مسعود‏.‏

 ذكر خبر أليس الصغرى

لما عاد ذو الحاجب لم يشعر جابان ومردانشاه بما جاءه من الخبر فخرجا حتى أخذا بالطريق

وبلغ المثنى فعلهما فاستخلف على الناس عاصم بن عمرو وخرج في جريدة خيل يريدهما فظنا أنه هارب فاعترضاه فأخذهما أسيرين وخرج أهل أليس على أصحابهما فأتوه بهم أسرى وعقد لهم بها ذمة وقتلهما وقتل الأسرى‏.‏

وهرب أبو محجن من أليس ولم يرجع مع المثنى بن حارثة‏.‏

 ذكر وقعة البويب

لما بلغ عمر خبر وقعة أبي عبيد بالجسر ندب الناس إلى المثنى وكان فيمن ندب بجيلة وأمرهم إلى جرير بن عبد الله لأنه كان قد جمعهم من القبائل وكانوا متفرقين فيها فسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يجمعهم فوعده ذلك فلما ولي أبو بكر تقاضاه بما وعده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يفعل فلما ولي عمر طلب منه ذلك دعاه بالبينة فأقامها فكتب إلى عماله‏:‏ إنه من كان ينسب إلى بجيلة في الجاهلية وثبت عليه في الإسلام فأخرجوه إلى جرير ففعلوا ذلك فلما اجتمعوا أمرهم عمر بالعراق وأبوا إلا الشام فعزم عمر على العراق وينفلهم ربع الخمس فأجابوا وسيرهم إلى المثنى بن حارثة وبعث عصمة بن عبد الله الضبي فيمن تبعه إلى المثنى وكتب إلى أهل الردة فلم يأته أحد إلا رمى به المثنى وبعث المثنى الرسل فيمن يليه من العرب

فتوافوا إليه في جمع عظيم‏.‏

وكان فيمن جاءه أنس بن هلال النمري في جمع عظيم من النمر نصارى وقالوا‏:‏ نقاتل مع قومنا‏.‏

وبلغ الخبر رستم والفيرزان فبعثا مهران الهمذاني إلى الحيرة فسمع المثنى ذلك وهو بين القادسية وخفان فاستبطن فرات بادقلى وكتب إلى جرير وعصمة وكل من أتاه ممدًا له يعلمهم الخبر ويأمرهم بقصد البويب فهو الموعد فانتهوا إلى المثنى وهو بالبويب ومهران بإزائه من وراء الفرات فاجتمع المسلمون بالبويب مما يلي الكوفة اليوم وأرسل مهران إلى المثنى يقول‏:‏ إما أن تعبر إلينا وإما أن نعبر إليك‏.‏

فقال المثنى‏:‏ اعبروا‏.‏

فعبر مهران فنزل على شاطىء الفرات وعبى المثنى أصحابه وكان في رمضان فأمرهم بالإفطار ليقووا على عدوهم فأفطروا‏.‏

وكان على مجنبتي المثنى بشير بن الخصاصية وبسر بن أبي رهم وعلى مجردته المعنى أخوه وعلى الرجل مسعود أخوه وعلى الردء مذعور وكان على مجنبتي مهران بن الازاذبه مرزبان الحيرة ومردانشاه‏.‏

وأقبل الفرس في ثلاثة صفوف مع كل صف فيل ورجلهم أمام فيلهم ولهم زجلٌ فقال المثنى للمسلمين‏:‏ إن الذي تسمعون فشل فالزموا الصمت‏.‏

ودنوا من المسلمين وطاف المثنى في صفوفه يعهد إليهم وهو على فرسه الشموس وإنما سمي بذلك للينه وكان لا يركبه إلا إذا قاتل فوقف على الرايات يحرضهم ويهزهم ولكلههم يقول‏:‏ إني لعامتكم‏.‏

فيجيبونه بمثل ذلك وأنصفهم من نفسه في القول والفعل وخلط الناس في المحبوب والمكروه فلم يقدر أحد أن يعيب له قولًا ولا فعلًا وقال‏:‏ إني مكبر ثلاثًا فتهيأوا ثم احملوا في الرابعة‏.‏

فلما كبر أول تكبيرة أعجلتهم فارس وخالطوهم وركدت خيلهم وحربهم مليًا فرأى المثنى خللًا في بني عجل فجعل يمد لحيته لما يرى منهم وأرسل إليهم يقول‏:‏ الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول‏:‏ لا تفضحوا المسلمين اليوم‏.‏

فقالوا‏:‏ نعم واعتدلوا‏.‏

فضحك فرحًا‏.‏

فلما طال القتال واشتد قال المثنى لأنس بن هلال النمري‏:‏ إنك امرؤ عربي وإن لم تكن على ديننا فإذا حملت على مهران فاحمل معي فأجابه فحمل المثنى على مهران فأزاله حتى دخل في ميمنته ثم خالطوهم واجتمع القلبان وارتفع الغبار والمجنبات تقتل لا يستطيعون أن يفرغوا لنصر أميرهم لا المسلمون ولا المشركون وارتث مسعود أخو المثنى يومئذٍ وجماعة من أعيان المسلمين فلما أصيب مسعود تضعضع من معه فقال‏:‏ يا معشر بكر ارفعوا رايتكم رفعكم الله ولا يهولنكم مصرعي‏!‏ وكان المثنى قال لهم‏:‏ إذا رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف الزموا مصافكم وأغنوا غناء من يليكم‏.‏

وأوجع قلب المسلمين في قلب المشركين وقتل غلام نصراني من تغلب مهران واستوى على فرسه ثم انتمى أنا الغلام التغلبي أنا قتلت المرزبان فجعل المثنى سلبه لصاحب خيله وكان التغلبي قد جلب خيلًا هو وجماعة من تغلب فلما رأوا القتال قاتلوا مع العرب قال‏:‏ وأفنى المثنى قلب المشركين والمجنبات بعضها يقاتل بعضًا‏.‏

فلما رأوا قد أزال القلب وأفنى أهله وثب مجنبات المسلمين على مجنبات المشركين وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم وجعل المثنى والمسلمون في القلب يدعون لهم بالنصر ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول لهم‏:‏ عاداتكم في أمثالهم انصروا الله ينصركم حتى هزموا الفرس وسبقهم المثنى إلى الجسر وأخذ طريق الأعاجم فافترقوا مصعدين ومنحدرين وأخذتهم خيول المسلمين حتى قتلوهم وجعلوهم جثًا‏.‏

فما كانت بين المسلمين والفرس وقعة أبقى رمة منها بقيت عظام القتلى دهرًا طويلًا وكانوا يحرزون القتلى مائة ألف وسمي ذلك اليوم الأعشار أحصي مائة رجل قتل كل رجل منهم عشرة‏.‏

وكان عروة بن زيد الخيل من أصحاب التسعة وغالب الكناني وعرفجة الأزدي من أصحاب التسعة‏.‏

وقتل المشركون فيما بين السكون اليوم وضفة الفرات وتبعهم المسلمون إلى الليل ومن الغد إلى الليل‏.‏

وندم المثنى على أخذه بالجسر وقال‏:‏ عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر حتى أحرجتهم فلا تعودوا أيها الناس إلى مثلها فإنها كانت زلة فلا ينبغي إحراج من لا يقوى على امتناع‏.‏

ومات أناس من الجرحى منهم‏:‏ مسعود أخو المثنى وخالد بن هلال فصلى عليهم المثنى وكان قد أصاب المسلمون غنمًا ودقيقًا وبقرًا فبعثوا به إلى عيال من قدم من المدينة وهم بالقوادس‏.‏

وأرسل المثنى الخيل في طلب العجم فبلغوا السيب وغنموا من البقر والسبي وسائر الغنائم شيئًا كثيرًا فقسمه فيهم ونفل أهل البلاد وأعطى بجيلة ربع الخمس وأرسل الذين تبعوا المنهزمين إلى المثنى يعرفونه سلامتهم وأنه لا مانع دون القوم ويستأذنوه في الإقدام فأذن لهم فأغاروا حتى بلغوا ساباط وتحصن أهله منهم واستباحوا القرى ثم مخروا السواد فيما بينهم وبين دجلة لا يخافون كيدًا ولا يلقون مانعًا ورجعت مسالح العجم إليهم وسرهم أن يرتكوا ما وراء دجلة‏.‏

بسر بن أبر رهم بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة‏.‏